مُفتي الأفلاج
أخذت قلمي ولست أدري لماذا... ويسألني ما الأمر وما الخطب؟
أَوَ كلما أصابك خَطْب جَلَل هَرَعْتَ إليَّ... وسَلَلْتَني من غِمْدي... ونَثَرتَ مِدَادي... وأَسْرَجْتَ خَيلي... وأَركَبْتَني السَّهْلَ والوَعْر...
قلت: نعم، أي والله، أنت رفيق دربي... وصاحبي الوفي الذي لايهون، ولايخون... والذي به أستجمع قواي عند المصاب... وبه أُزيح عن كَاهِلي الهمَّ والحُزن...
عَاتبني صاحبي وحُق له العتاب، أما تحرك ساكنا... وتَقُل شَيئاً يستحقه شيخنا الجليل... أما تُشجينا بالبيت والشعر الرزين؟ وتُطرب مسامعنا بالثناء العطر الجميل؟
قلت: لست أجيد فَنّ الشعر وبحوره الطوال... ولا وزنه المتفعلل فعولن فعولن فعول...
ولكني أجيد نثرا أُحبِّره لك تَحبِيرا... وأرسمه لك رسما مُبْدعا... وأنظمه لك كما يُنْظَم الخَرَزُ في خَيْطِه...
لقد قرّح الفؤاد أنيين وبكاء... وبكى الغَمَام في مُزْنه... والحَمَام واليَمَام في عُشِّه... فتَلَعْثَمَت الكلمات والمقالات... وتَطَايَرت الأحرف والسَّكَنات... فلم تعد الكلمات طَوْعَ بَنَاني كما عهدتها... ولا العبارات سَكْباً في لباسها الخَزِّي كما درَّبْتُها...
وذاك أن غاب القَمَر... وأَفَلَت النجوم... وانطفأ النور الذي كالذي في المصباح والمصباح في زجاجة والزجاجة كأنها كوكب دُري يُوقد من شجرة مباركة زيتونة لاشرقية ولاغربية... يكاد زيتها يُضيء ولو لم تمسسه نار، نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء...
وفقدت الأمة عَلَمَها وعَالِمها الشيخ الجليل إبراهيم بن محمد الخرعان الذي وافاه الأجل يوم الأثنين 8/10/1435هـ وصلَّى عليه في يوم مَهيب خلق كثير من بين باك وداعٍ ومُثْنٍ بخير... في ذاك اليوم شعرت وكأن الكائنات تشاركنا الهم والحزن على فراقه... وقد ورد أن الكائنات تستغفر لمعلمي الناس الخير حتى الحيتان في البحر... وهي كذلك تبكي وتحزن على فراقهم....
إن هَمَى الدمع على فراق شيخنا... ولَفَّ الحُزنُ الفُؤادَ... وتَنَاثَرت الدَّمعات من مُحبيه... وعُطِّر الجو بالثناء عليه... والدعاء له... فهو يستحقه وأكثر؛ فهو عَالِم ربَّاني، عَامِل بما عَلِم، وشيخ مهيب جليل، فيه من الخصال من تَتَعذَّر على كثير من الرجال...
وهو مرجع فتوى أهالي محافظة الأفلاج... إن سألته أجابك وأفادك بشرح وعلم غزير يُغنيك عن السؤال... بلطف عبارة... وخلق طيب سمح وسهل... وابتسامة أخاذة تشرح فؤادك وتسليه...
وهو عالم رباني... وعابد... زاهد وَوَرِع... تَجَافى عن الدنيا وزخرفها فلم تَغُرُّه وتُغْريه... وقد تحلَّى بخلق عظيم...
فكلما قابلته وسلَّمت عليه... هشَّ وبشَّ في وجهي... وتَهلَّل فرحا مسرورا... ثم ارتسمت على مُحيَّاه ابتسامة مُشرقة وضَّاءة تَأْسِرك... وتستحوذ على مجامع فؤادك... ثم سألني عن أبنائي وأحبابي وزملائي... حتى لتشعر من داخلك أنك أنت الأَهم في حياته...
رحمك الله شيخا ذا خلق عظيم... إني أقول: إنه بحق مدرسة ربانية في تعليم الخلق الحسن ومهاراته النادرة... ( عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: لم يكن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فَاحِشاً ولا مُتَفَحِشاً وكان يقول: إن من خياركم أحسنكم أخلاقا ) رواه البخاري.
صِلتي به قوية... فهو شيخي ومُعلمي الفَذّ... فقد دَرَّسَني في المعهد العلمي في محافظة الأفلاج... وكان دَرْسُه من أجمل الأوقات التي نَرْقُبُها ونَتَرقَّبُها... ومن عادته أن يسأل الطلاب جميعهم، والمفاجأة أن الطلاب لديهم المقدرة على الإجابة... وهذا في أول الدرس لايأخذ عشر دقائق... والدرس سهل واضح ممتع، يفهمه الجميع وليسوا بحاجة إلى مراجعته... وإن جاء الاختبار نجح الجميع بدرجات عالية، ولم يحمل يوما معه عصا يؤدب بها الطلاب... إنها مهارة بارعة في فنِّ التعليم... علينا تعلُّمها واكتسابها...
وزاملته في المعهد بضع سنوات ثم تقاعد؛ فكان لنا أبا وشيخا ومربيا ومعلما...
أتذكر أني قد أهديته كتابي(أبشر فالسعادة بين يديك) عام 1426هـ فأُعجب به ودعا لي بخير، ثم أهديته من آخر كتبي كتابي(تتجافى جنوبهم عن المضاجع) السنة الماضية 1434هـ فقرأه كلَّه، وأُعجب به وأثنى عليه كثيرا، ومن ملحوظاته عليه أن قال لي: أين تخريج الأحاديث؟ قلت: في الهامش يافضيلة الشيخ، ومن عادتي أن لا يمر بي حديث عن المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا وخرجته ولا أذكره إلا إذا كان صحيحا ، مع ذكر المرجع، فكأنه لم يرها لصغر الخط في الهامش... فقال: نعم هكذا أحسنت.
وكان كلما التقيته وسلمت عليه سألني أين الجديد من كتبك، ثم يقول: إن هذا العمل الذي يبقى للإنسان بعد موته، قلت: رزقني الله وإياك الإخلاص... فَأَعِده خيرا، وكنت قد أعددت له بداية شهر رمضان 1435هـ إصدارا جديدا نويته به وهو( حلاوة الذكر والدعاء)، ولكن حال بيني وبينه المرض الذي لازمه طيلة الشهر الكريم والذي وافاه أجله فيه(رحمه الله رحمة واسعة)
إن تألم القلب على فراق شيخنا... وأظلمت سماء الأفلاج لفقدها بدرها المضيء... وغَشَت قلوب محبيه الحزن والهم على فقده... وطَوَته الأرض في لِحَافِها... وغيّبت شخصه الجليل عن أعيننا... فلم نعد نراه ولا نسمع له صوتا... إن كان الأمر كذلك؛ فلنا العزاء كلَّ العزاء في طيب ذكراه وحب الناس وثنائهم عليه... وفي علمه الرباني الذي تركه وراءه... وفي ذريته وطلابه من بعده أن يخلفوه بخير... وفي خلقه الحسن العظيم الذي تحلَّى به...
ونحن إذ نودع شيخنا الفاضل... ونفقد عالما ربانيا؛ علينا أن نتعلم من علمه الوافر الذي تركه... ومن سيرته العطرة الندية... ومن خلقه السمح السهل... ومن ورعه وزهده في الدنيا وزخارفها... فحياته وسيرته بحق؛ مدرسة ربانية... منها تعلمنا الكثير... وعلى الأجيال القادمة أن تأخذ حظها الوافر منه...
رحم الله شيخنا وأفسح له في قبره... ورفع درجته في عِليِّين... ورزقه الفردوس الأعلى مع النَّبِيِّين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا.
محمد بن سعد آل زعير
15/10/1435هـ
التعليقات 1
1 ping
2014-08-27 في 6:32 ص[3] رابط التعليق
لك الله يا شيخ محمد فهذا الشيخ له مكانة كبيرة عظيمة عن تلك الديار فنعم الخطب ونعم المقال ونعم السمعة رحمك الله شيخ الأمة ويا معلم الناس الخير فوالله لم يخل بيت من بيوت تلك الديار الا ويترحم عليه وسمعته وصلت المشرف والمغرب فرحمك الله رحمة واسعة