دخلت عليه فإذا بي أرى شيئا لم أكن أعرفه فيه من قبل...تغيَّر عليَّ لم يكن كعهده في السابق...تحول مفاجىء وخطير...
أرى جسمه الممتلىء بدأ في النحول والاضمحلال...ذاك الشاب مليء الثياب...أصبح لاتكاد تراه في ثوبه...لقد ضَمُر الجسم ونحل....
أرى شرودا قد خيَّم على محيَّاه...نظراته شاردة كأنما يفكر في أمر أعياه حلُّه...
إني ألمح في عينه اليمنى ثلاث دمعات يزدحمن...ويتسابقن إلى الخروج...ولكني أراه عصي الدمع...شديد النفس...فكأنما هو وهن في سجال ومساجلة...ومرواغة ومدافعة...يُرِدن الخروج ولكن شيمته الأبيَّة وطبعه العصي...وسجاياه الحيِّيَة الكريمة؛ تردهنَّ بلطف عبارة...وهمسة حب مشفقة...ولفظة رزينة مقنعة...ولكن مع هذا كله...ياترى هل سينتصر عليهن...؟؟؟
لقد خسر هذه المعركة...فهاهن الدمعات الثلاث يتدحرجن على وجنتيه المشرقتين...كأنهن حبَّات برد ينزل من السماء فيقعن على ورقة شجرة...فتحضنهن حتى إذا تبخرت البرودة وعادت حبات البرد إلى أصلها؛ أخذت تنزل قطرة قطرة إلى الأرض...هن كذلك...
كل هذا وأنا أرقب النظر...إنه صديقي وخليلي الوفي...أعرفه...
ما أوصله إلى هذا الحد...؟ ومن غيَّر فيه طباعا وسجايا كنا عظيمات؟...كان الناس يتحدثون عنها بأشبه بالخيال،؛ لندرتها في الرجال...
إني أتأوَّه من سويداء قلبي...أحترق من داخلي...ضميري يسألني فلا أحير جوابا...
مالي هذا الخليل وهذا المرأى الذي لايسر الصديق...وربما أعجب العدو مشهده...
عزمت في نفسي على محادثته وسؤاله عم حدث...فإذا بي لاأستطيع أن أجمع كلماتي وعباراتي وأفكاري لأحدثه...
حاولت مرة أخرى فكلما اجتمعت فكرة...ولفظة مشرقة؛ ندَّت مني أختها...وتفلَّت مني بنات أفكارها...حتى إذا خلصت من هاجسي؛ إذا بذهني من الموضوع صفراً...
سبحان الله...!! ألهذا الحد لاتستطيع التحدث إلى زميلك وصديقك الوفي ورفيق دربك...؟؟؟
لست أدري ما الإجابة...ولا أعرف لها طريقا...
الذي أعرفه أنه صاحب وفي...كريم ندي...خلوقا بسوما...مشرق الثنايا...ضحوك السن...أريحي الندى...
وأما عن دينه فلا تسل...روضة المسجد تعرفه...إن سألتها: مكان من هذا؟ قالت: والله إنه لفلان...إنها تشهد له تلك البقعة المباركة بالحضور الأولي خلف الإمام لكل صلاة...وماذا بعد؟ لاتسل...فيشجيك الخبر...
إنه صديقي الوفي ورفيق دربي...أعرفه...
كريم اليد...سخي الجيب...ندي الكف...معطاء للخير...أعرفه...كم محتاج سد جوعته...كم مضطر فك كربته...كم يتيم مسح دمعته...كم أرملة ألبسها ثوب الغنى حتى لا تسأل الناس...كم وكم...وكم أسكت عن أخبار له لا أبوح بها عنه...لعلها تكون في السر بينه وبين ربه كما هو يحب ويرغب...
إنه صديقي الوفي ورفيق دربي...أعرفه...ولكن لم أستطع أجد جوابا لحاله...ولا تفسيرا لواقعه المؤلم الجديد...سبحان الله...
هل تكون فتاة تعلق قلبه بها...فأوصلته إلى هذا الحد...؟؟؟ لست أدري...
هل تعلق قلبه بالدنيا وبالدينار والدرهم...فخسر شيئا منه...فكانت هذه حاله...؟؟لست أدري...
هل وقعت له مشكلة لايستطيع حلها...فانعكست على نفسه فاضطربت وتغير مزاجها...
إنه صديقي الوفي ورفيق دربي...أعرفه...ولكن في هذه المرة ربما خالطني شيء من الشك أن يكون شيئا مما ذكرته حصل له...قد يكون؛ فهو بشر ومحل الخطأ والنسيان...ولا معصوم إلا الأنبياء( عليهم الصلاة والسلام)...
لما لم أجد جوابا لحاله...ولم أستطع له سؤالا؛ قلت في نفسي: أستأذنه...فلعلي أثقلت عليه بجلستي هذه...ونظراتي إليه المتقلبة...فلربما كان في المستقبل حلا لهذا اللغز الذي حيرني وأربك أفكاري...
استأذنته...وودعته...وحياني كعادته...ولكن لم يكن كما كان في قوته ونضارة جسمه الممتلىء...وصوته الندي الجهوري...
بصوت خافت متقطع...قال لي: أستودعك الله الذي لاتضيع ودائعه...
صافحته وودعته بنظرات الحب الوفي الذي أحمله له في قلبي...فانكسر نظره إلى الأرض حياء مني....
إنه صديقي الوفي ورفيق دربي...أعرفه...
ذهبت إلى البيت وصورته في ذهني لا تفارقني...وسؤال محير عجزت عن حله يرافقني...
حتى جاء ذاك الصباح المشرق...إذا به يتصل علي ليستأذنني في زيارة...
قلت: حيَّ هلا ومرحبا بالصديق الوفي...
جاءني فحيَّيته وحيَّاني...وسلمت عليه وسلَّم علي...وصافحته وصافحني...ولكن قبل هذا كله كان قلبانا قد سلَّما وتصافحا وتحايا...
جلس على الأريكة...وقد كنت مقابلا له في جلستي....مددت له كوب الشاي...فأخذه شاكرا ومبتسما...
في هذه اللحظات وجدت من نفسي قوة وشجاعة...تريد التحدث إليه بطلاقة...
همست في أذنه: أخي الغالي،
رد عليَّ: نعم، ماذا تريد؟
قلت: لغز حيَّرني...بل والله إني لخائف عليك فلربما أفسد عليك دينك ودنياك...
-وماذا تعني بذلك؟
-فذكرت له سالف حاله...وقصة موقفه...وتغير مزاجه ونفسه...
هزَّ رأسه...وكأنه يريد أن يقول: نعم صدقت...
سكت برهة وصمت أنا معه برهة...وكنت أنتظره أن يكمل لي الجواب...فما أكمل...
سارقته النظرات...فحيَّاني بها...
قلت: أكمل...لِمَ لما تجب بعد؟
قال: وما ذاك؟
قلت: إن أمرك لغريب...منذ جلست معك اللقاء الأول وأنت في مخيَّلتي وفي قلبي...صورتك لاتفارقني...بكيت على حالك وأنت لاتدري...سهرت كثيرا وطار النوم من عيني...لعلي أجد حلا لهذا اللغز ...فما استطعت...
لأنك أنت صديقي ورفيق دربي أعرفك...
فقل لي بالله...ماسر هذا التغير وهذا التحول...وذاك البكاء...
إن كان عندك لي صحبة تحفظها فأجبني...وأعدك إن كنت أستطيع أن أقدم لك مساعدة فو الله لن أدَّخرها عنك...
قل...هيَّا تحدث واشف غيض قلبي...
التفت إليَّ مبتسم الثغر...وبنظرات ملؤها الحب والصدق والوفاء...
وكأنها تقول: إنك لصديق وفيٌّ قَلَّ في هذا الزمان...
أما إن تسألني عن حالي تلك؛ فلربما قفز في ذهنك أشياء وأشياء...ربما تقول:
وقع أسيرا لامرأة ذات جمال خلاَّب فأسرته...وربطت فؤاده في معصمها...وحبست دمعته فلا تخرج إلا تشييعا لذكرها...وقيدت أفكاره فلا تغرد إلا في بستانها...وربطت قدمه فلا يسير إلا إلى دارها ومن تحب...وأسرت لسانه فلا ينطق إلا باسمها...وحرَّمت عليه مراتع النظر إلا إلى صورتها وطيفها...فهاهو يسبح في فلكها...حيث كانت يكون...وحيث أحبت يحب...وحيث كرهت يكره...ربما تقول ذلك وغيره...ولك الحق أن تقول...
ولكني لن أطيل عليك فأنت في شوق عظيم دفين لمعرفة حل هذا اللغز...
قلت: إي والله...هيا عجل عليَّ أخبرني...
قال: وهو يتأوَّه كما يتأوه الحبيب لفقد حبيبه...
وكنت قد أرخيت نظري إلى الأرض...أستمع للجواب حتى أحفظه...
فسكت برهة...قلت في نفسي...سيأتي الجواب...فأطال السكوت...
رفعت نظري وصوَّبته إليه: سائلا...لماذا السكوت؟
فإذا بي أرى محجر عينيه قد اغرورق بالدمع...الذي لم ينتظر شدته ولا مدافعته...بل انهمر على خديه...واخضلَّت به لحيته المشرقة الوضاءة...كالمطر عند نزوله من السماء...
فأحسست ساعتها بالخشوع والرهبة...والسكينة والهدوء...في مثل هذا الموقف حبًّا وخوفا عليه...
وما إلا هُنَيهة...وتسكن العبرات...وتهدأ النفس...وينطق بالجواب:
قال: أخي الغالي: إنه والله حبّا لله...وشوقا للقياه...
عندها ما انتظرت شيئا يفعله أو يتكلم به بعدها...فعانقته معانقة اشتبكت دمعاتي بدمعاته...وجسدي بجسده...وقلبي بقلبه...وحبي بحبه...
ثم قلت: والله إنك لصديقي الوفي ورفيق دربي...أعرفك...
محمد بن سعد آل زعير